- الحديث الشريف / ٠1شرح الحديث الشريف
- /
- ٠4رياض الصالحين
الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين, اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم, اللهم علمنا ما ينفعنا, وانفعنا بما علمتنا, وزدنا علماً, وأرنا الحق حقاً, وارزقنا اتباعه, وأرنا الباطل باطلاً, وارزقنا اجتنابه, واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه, وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين, أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات.
تمهيد :
أيها الإخوة المؤمنون؛ لا زلنا في الحديث النبوي الشريف، وفي باب الاستقامة.
(( عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الثَّقَفِيِّ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ, قُلْ لِي فِي الْإِسْلَامِ قَوْلًا لَا أَسْأَلُ عَنْهُ أَحَدًا غَيْرَكَ بَعْدَكَ، قَالَ: قُلْ:
أعيد قراءة الحديث:
أيها الإخوة الأكارم:
(( عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
فهذا الحديث كما يقول علماء الحديث: من جوامع الكلم، النبي عليه الصلاة والسلام الإسلام الدين ضغطه بكلمتين, قُلْ:
فالإسلام اعتقادٌ وعمل، منطلقٌ نظري وتطبيقٌ عملي، فهمٌ وسلوك، لذلك متى ضلَّ المسلمون؟ حينما اكتفوا بالاعتقاد, وقصَّروا في العمل.
هذه الكلمات الجامعة المانعة للنبي عليه الصلاة والسلام, ينبغي أن نعيها حق الوعي.
قُلْ: آمَنْتُ بِاللَّهِ :
ليسأل أحدنا نفسه: متى آمنت بالله؟ كيف آمنت بالله؟ بماذا فكرت حتى آمنت بالله؟ هل حضرت مجالس العلم حتى آمنت بالله؟ أيظن أحدكم أنه إذا قال: لا إله إلا الله, ولم يقلها بحقها, أتجزئه؟ لا والله، قال عليه الصلاة والسلام:
(( من قال: لا إله إلا الله بحقها دخل الجنة, قيل: يا رسول الله, وما حقها؟ قال: أن تحجزه عن محارم الله ))
فإذا قلت: لا إله إلا الله بحقها، وحقها أن تحجزك عن محارم الله, من لم يكن له ورعٌ يصده عن معصية الله إذا خلا, لم يعبأ الله بشيءٍ من عمله
لو أن هناك خلل في العمل, هناك خلل في العقيدة، لو أن هناك خللٌ في العقيدة, يتبعه خللٌ في العمل، لو أن الإنسان اعتقد: أن الله لن يحاسب الخلق, إذاً: لن يستقيم، فمن لم يكن مستقيماً, فاعتقاده باطل، ومن كان اعتقاده باطلاً, فهو بالتالي لن يكون مستقيماً، هذا الترابط الدقيق بين ما تعتقد وما تفعل، بين المنطلق النظري والتطبيق العملي، بين الاعتقاد وبين العمل، بين ما يستقر في قلبك وبين ما تفعله في يديك، لهذا قال عليه الصلاة والسلام:
(( ليس الإيمان بالتمني ولا بالتحلي، ولكن ما وقر في القلب، وأقر به اللسان, وصدقه العمل ))
حديثٌ رائع: (( قُلْ: آمَنْتُ بِاللَّهِ ثُمَّ اسْتَقِمْ ... )) .
قال تعالى:
﴿
هذا ميزان, قال تعالى:
﴿ قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى
﴿ قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى
حديثٌ رائع: لا يخافن العبد إلا ذنبه.
هذا الحديث على إيجازه وعلى قصره, من الأحاديث الجامعة المانعة، من جوامع الكلم، النبي عليه الصلاة والسلام يقول مثلاً:
(( لا يخافن العبد إلا ذنبه ))
انتهى الأمر، مليون مصدر للخوف بالحياة، كيفما تحركت في خوف، تخطيط؛ قلبك تعبان، في شعور آلام في الرجل, هناك ديسك بالظهر، بجسمه وحده مليون مصدر للخوف أليس كذلك؟ بعمله، ببيته، بسفره، بإقامته، بصحة أولاده، بصحة زوجته مليون مصدر، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول:
﴿ وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4) ﴾
سيدنا سعد يقول:
ما سمعت حديثاً من رسول الله, إلا علمت أنه حقٌ من الله تعالى
نبي الله يقول لك:
﴿ وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ
تكون في ظل الله، تكون في رعاية الله، تكون في ذمة الله، فلذلك هذا الحديث من الأحاديث الجامعة المانعة.
(( عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الثَّقَفِيِّ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ, قُلْ لِي فِي الْإِسْلَامِ قَوْلًا لَا أَسْأَلُ عَنْهُ أَحَدًا غَيْرَكَ بَعْدَكَ، قَالَ: قُلْ:
كيف كان أصحاب النبي عليهم الصلاة والسلام تكفيهم الكلمة والكلمتان، وانتهى الأمر؟.
نحن سمعنا خطبًا، وسمعنا دروسًا، وقرأنا كتبًا لا تحصى، ومع كل ذلك: ترى خللاً في الاستقامة، اضطرابًا في السلوك، وإخلافًا في المواعيد، وكذبًا في القول، وغشًّا، وتدليسًا، وإيهامًا، ومخادعة، وغيبة، ونميمة، وتقصيرًا، ومخالفة، واختلاطًا، كل هذا التراث الإسلامي ؛ كتاب الله ستمئة صفحة، الأحاديث النبوية ستمئة ألف حديث مطبوع، كتب إسلامية لا تعد ولا تحصى، لذلك:
(( عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
فالقضية لا تحتاج إلى كثير كلام، ولا إلى كثير شرح، ولا إلى مزيدٍ من المعلومات، أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام كانت تكفيهم الكلمة أو الكلمتان.
قيل: إن تلميذًا داوم درسًا وغاب، أين أنت يا بني؟ لنطبق الذي قلته لنا، فالإنسان لا بد أن يحرص على التطبيق، لأن النبي عليه الصلاة والسلام يقول:
(( الدِّينُ النَّصِيحَةُ, قُلْنَا: لِمَنْ؟ قَالَ: لِلَّهِ, وَلِكِتَابِهِ, وَلِرَسُولِهِ, وَلِأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ ))
النصيحة لله، كيف؟ إذا رأيت إنساناً, يفعل خلاف ما أمر الله في كتابه الكريم, عليك أن تنصحه، ولمَن؟ ولرسوله، كيف؟ إذا رأيت إنساناً, يخالف سنة رسول الله, عليك أن تنصحه للرسول, ولمَن؟ ولأولي الأمر، رأيت إنساناً, يخالف أولي الأمر فيما أمر الله، أو فيما نهى الله عنه, عليك أن تنصحه, ولمَن؟ ولعامة المسلمين.
فأنا الذي أراه أنه في اللحظة التي تقول قولاً ليس فيه نصيحة لأخيك المسلم, فكأنك خرجت من الدين,
في بعض الروايات أن هذا السائل قال: أريد أخف من ذلك، هذه الاستقامة ثقيلة، شيء صعب، أهي قضية إحكام خناقي؟ يخنقك العالم، أجد لها حلاً، ليس هذا الموضوع، الموضوع أنت تقول مثلاً لمهندس خبير: أخي لماذا تضع لنا ثمانية ميلي حديدًا؟ هذا مفقود، حلها برمة وضعه خمسة ميلي, يقع البناء، هذا علم، تقول لمهندس: دبرها, إذا قال لك: هذه الأساسات تحتاج لثمانية ميلي محلزن، يكفي خمسة ميلي، هل تقول هذا للمهندس؟ لأن كلامه مبني على العلم.
فالذي يقول لك: حلها برمة، لم يفهم هذا الدين، الدين قواعد دقيقة جداً مبنية على أسس علمية، فلما الإنسان يكون في تسريب، فيه مخالفات، ومعاص، وحجاب، وعدم إقبال، وملل، كله سمعناه، من أين يأتي الملل؟ من عدم التطبيق، في قطيعة مع الله عزَّ وجل, لأنه ليس ثمة إقبال، ما دام ثمة إقبال فثمة إقبال، ما دام هناك انقطاع فهناك إدبار، فالإنسان ما دام يطبق فهو في إقبال، فإذا قصر في التطبيق فهو في إدبار، فقال له: إذاً: فاستعدَّ للبلاء.
تريد حلها لك برمة, إذاً: ألق مصائب، مشكلات، تضييقًا، فهذا الحديث جامعٌ مانع، يقول لك: أخي قل لي: كلمتين, وأنت طالب علم, تقول له: على عيني ورأسي، قل له: أحد أصحاب رسول الله, سأل النبي عليه الصلاة والسلام قال:
قال لي أحدهم: كنت على السلم، فأتى زبون بقطعة تبديل، وأنا على السلم, قال لي: أصلية, قال له: لا، فقال له: أعطني إياها، صار البيع حلالا، ففي البيع والشراء، في التجارة، في الزواج، في علاقتك ببيتك، بأولادك، بزوجتك، بجيرانك،
تعريف الاستقامة:
الآن الاستقامة: هي التزام منهج الإسلام، تطبيق تعاليم الإسلام تطبيقاً كاملاً, هذه ما تعنيه الاستقامة.
الاستقامة كما قال سيدنا عمر رضي الله عنه:
أخي ثمن البضاعة عشرة آلاف، قال له: سجلهم، فجاء له بعد نصف ساعة, وقال له: أخي هذه عشرة آلاف، ولكن بالمئة ستة, احسم لي، أساس بالمئة ستة، أخي هذه ربا، اكتب أنت، ولا تعقدها، هذا روغان الثعلب، هو كان مشتريا بسعر أعلى مقابل الزمن، فلما جاء بالمال يريد حسم بالمئة ستًا، حرام، اكتب مسامح، ولا تروغ عنه روغان الثعلب، هذا تعريف سيدنا عمر للاستقامة.
يريد أحدهم أن يأكل الربا، يبيعك حاجة ديناً بألف ليرة، بعدما باع ديناً بألف ليرة, يشتريها منك نقداً بثمانمئة، أعطاك ثمانمئة، وكتب عليك ألفًا، أخي بيع وشراء، صفقتان فيهما إيجابٌ وقبول، الأولى ديناً والثانية نقداً، ولا تروغ عنها روغان الثعلب.
تريد أن ترى زوجة أخيك, هذه سهلة، خذ بنتًّا صغيرة من بنات الجيران، ترضعها زوجة أخيك خمس رضعات مشبعات، تعقد عليها كتاب, تصير زوجة أخيك حماتك، تطلق البنت، فتصير الحماية على التأبيد، والله شيء مرتب، ولا تروغ عنه روغان الثعلب، هذه الحيل الشرعية.
زكاة مالك ضعها في رغيف خبز، وهبها لفقير، بعدما وهبته الزكاة، تقول له: تبعني الرغيف بخمس ليرات؟ يقول لك: نعم، دفعتها ثم استوهبتها من الفقير.
فهذه الحيل الشرعية تعني: أن الرجل لا يعرف الله أبداً، هذا الذي أمرك بدفع الزكاة أيغفل عن هذه الحيلة؟! هذا الذي أمرك ألا تنظر إلى زوجة أخيك أيغفل عن هذه الحيلة؟! هذا الذي أمرك ألا تأكل الربا أيغفل عن هذه الحياة؟! ولا تروغ عنها روغان الثعلب.
وفي تعريفٍ آخر: دعوى الإيمان لا تكفي، ما لم يدل على الإيمان العمل، فإنه ترجمةٌ له وثمرةٌ من ثماره، والاستقامة درجةٌ عاليةٌ تدل على كمال الإيمان وعلو الهمة، هذا الحديث يكفي:
نعيد قراءته على أسماعكم لمن فاته كتابة الحديث :
(( عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الثَّقَفِيِّ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ, قُلْ لِي فِي الْإِسْلَامِ قَوْلًا لَا أَسْأَلُ عَنْهُ أَحَدًا غَيْرَكَ بَعْدَكَ، قَالَ: قُلْ: آمَنْتُ بِاللَّهِ ثُمَّ اسْتَقِمْ ))
أي أنت بحاجةٍ إلى أن تؤمن، مَن قال لك: أن إنسان يأخذ شهادة عالية وهو نائم؟ لا بد من أن يدرس، فالإيمان بالله شهادة عالية، متى آمنت؟ إذاً: أنت تحتاج إلى تفكر، وإلى التأمُّل، وإلى التعلم.
صور من مواقف أبي بكر رضي الله عنه .
نتابع قصة سيدنا أبي بكرٍ رضي الله عنه وأرضاه.
هذا الرجل العظيم المتفوق, ولد سيداً, وعاش سيداً، من أين جاءته هذه السيادة؟ من كماله، من كمال إيمانه, وكمال عمله، وكل واحد منا إذا استكمل إيمانه, وكمل عمله، يعيش بين الناس في عز الطاعة، للطاعة عز، وللمعصية ذل، والدعاء المأثور:
(( اللهم أخرجنا من ذل المعصية إلى عز الطاعة ))
هذا الرجل الذي أنقذ الإسلام من خطرٍ محقق، وردَّ إليه حياته وثباته، هذا الذي بدأت أبراج كسرى وقيصر تتساقط تحت قدميه، والعالم القديم يتداعى بين يديه، هل غيَّرت الخلافة من جوهر نفسه؟ أو من أسلوب حياته؟ هل نسي تواضعه وفضائله في زحمة انتصاراته؟ هذه بطولة؛ أن تكون في قمة المجتمع، وأنت محافظٌ على جوهر إنسانيتك، هل عاش فوق الناس بل عاش واحداً بين الناس؟ لنرى.
هذا سيدنا أبو بكر, يصعد منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم لأول مرَّة، بعد أن صار خليفةً, صعد منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم, بعد أن غاب عنه فيصله وربَّانه، غاب عن هذا المنبر سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، صعد هذا الصديق هذا المنبر أول مرة، وإنه ليصعد درجتين، ثم يجلس، قد يكون المنبر خمس درجات، صعد درجتين وجلس، فهو لا يبيح لنفسه أن يصعد كل الدرج, وكل المرتقى، ولا يبيح لنفسه أن يجلس حيث كان النبي يجلس، ما هذا التواضع؟.
أعلى درجة مقام رسول الله، سيدنا عمر صعد إلى مكان أبي بكر، ثم نزل درجة، وقال: ما كان الله ليراني أن أرى نفسي في مكان أبي بكر.
سيدنا عثمان نزل درجة، كلهم يعرف مقام إخوانه.
ها هو ذا يستقبل الجمع الحاشد ويقول: أيها الناس, إني وليت عليكم ولست بخيركم، -انطلق من أنه ليس خير الناس بل هو واحدٌ منهم، هذا التواضع شعار العظماء.
هذا الكلام لم يقله ذكاءً، لم يقله كياسةً, بل قاله حقيقةً- إن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوّموني، -أنتم لكم دور خطير، عليكم أن تراقبوني- ألا إن الضعيف فيكم قويٌ عندي حتى آخذ الحق له، ألا وإن القوي فيكم ضعيفٌ عندي حتى آخذ الحق منه، أطيعوني ما أطعت الله ورسوله، فإن عصيته فلا طاعة لي عليكم، قوموا إلى صلاتكم يرحمكم الله، انتهت، لا نريد كلاما كثيرًا، نريد كلامًا مختصرًا, مفيدًا، موجزًا، والبلاغة في الإيجاز.
الحقيقة: هناك أناسٌ آخرون أذكياء، بإمكانهم أن يقولوا: كلاماً عميقاً، لطيفاً، متماسكاً، موجزاً، ولكن الروعة أن سلوك صاحب هذا القول لا يختلف عن قوله، كلٌ يتحدث عن الكمال، ولكن الذي يتحدث عن الكمال, وهو كامل, هذا الذي يؤثر في الناس.
أول خطبة له رضي الله عنه وأرضاه.
أيها الإخوة؛ قال: أيها الناس, ولِّيت عليكم ولست بخيركم، -سيدنا الصديق يؤكد: أن هذه الولاية ليست مزية ولا امتيازاً، إنها خدمةٌ عامة في أكثر المستويات, هذه الخدمة مشقةً ومسؤوليةً، هذه الولاية إنما هي وظيفة لا استعلاء، إنما هي زمالة لا كبرياء، هو واحدٌ من هذه الأمة, وليست أمةً في واحد، إني وليت عليكم، ولست بخيركم.
هكذا يجب أن تعتقد: أنه يكون بين الحاضرين الذين يستمعون إليك؛ من هو أعظم منك؟ من هو أتقى منك؟ من هو أقرب إلى الله منك؟ من هو آثر عند الله منك؟ القضية ليست بالمظاهر بل بالنوايا، بالإخلاص لله عزَّ وجل.
أندم الناس يوم القيامة: عالمٌ دخل الناس بعلمه الجنة, ودخل هو بعلمه النار.
من تعلم العلم ليجادل به العلماء، أو يماري به السفهاء، أو يصرف وجوه الناس إليه, فليتجهز إلى النار.
قوام الدين والدنيا أربعة رجال: عالمٌ مستعملٌ علمه، وجاهل لا يستنكف أن يتعلم، فإذا ضيع العالم علمه, استنكف الجاهل أن يتعلم، وغنيٌ لا يبخل بماله، وفقيرٌ لا يبيع آخرته بدنياه، فإذا بخل الغني بماله, باع الفقير آخرته بدنيا غيره.
سيدنا أبو بكر رضي الله عنه: رأى أنه لن يكون حراً إلا بقدر ما تكون أمته حرة، لن يكون عزيزاً إلا بقدر ما تكون أمته عزيزة، لن يكون آمناً إلا بقدر ما يكون هؤلاء آمنين، لذلك قال: لست بخيركم، أنا واحد منكم، هذا التواضع صفة من صفات العظماء، أنا واحد منكم-.
قال: إن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوموني، الضعيف فيكم قويٌ عندي حتى آخذ الحق له، والقوي فيكم ضعيفٌ عندي حتى آخذ الحق منه، أطيعوني ما أطعت الله ورسوله -أي راقبوني.
هناك مقياس هو الإسلام فقيسوني به، أنا تحت المقياس، أنا أخضع لمقياس الإسلام، وليس الإسلام يخضع لمقياسي، هذه فكرة هامة جداً، أنا تابعٌ لأوامر الدين، وليست أوامر الدين تابعةً لرغباتي- فإن عصيت فلا طاعة لي عليكم.
لهذا الصديق كلمة رائعة يقول: واللهِ ما كنت حريصاً على الإمارة يوماً ولا ليلة، ولا سألتها الله في سرٍ ولا علانية.
تروي كتب التاريخ: أن سيدنا أبا بكرٍ رضي الله عنه, دخل عليه عمر داره, فألفاه يبكي، وما كاد أبو بكرٍ يبصر عمر بن الخطاب أمامه, حتى تشبث به، كأنه زورق نجاة، وقال له: يا عمر, لا حاجة لي في إمارتكم، ولم يتركه عمر يتم حديثه، فقد بادره قائلاً: إلى أين المفر؟ والله لا نقيلك ولا نستقيلك.
موقفه مع السيدة فاطمة رضي الله عنهما.
إليكم بيان الحكم الشرعي في هذه الواقعة التي وقعت بعد وفاة رسول الله، السيدة فاطمة, حينما ولدت ضمها وشمها, وقال:
قال أبو بكرٍ لها: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة، وإني والله لا أدع أمراً رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصنعه إلا صنعته، فإني أخشى إن تركت شيئاً من أمره أن أزيغ -يخاطب ابنة رسول الله, هكذا سمعت.
إن أبا بكر رضي الله عنه, يعلم أن أولى الناس الرعاية في الحق, هي بنت رسول الله، ويعلم كم كان النبي عليه الصلاة والسلام يحبها، ويؤثرها، ويعلم مدى حاجتها, وزوجها, وأولادها, إلى هذه القطعة من الأرض، لكن أبا بكر يؤثر أن يركب صعب المركب عن أن يقول لابنة رسول الله: لا، ومع هذا فقد قال لها: لا، إنه حينما آمن بالنبي، وبدينه، وشرعته، صارت هذه الشرعة قانوناً، وإيمانه بالشرعة لا ينفصل عن إيمانه بالله ورسوله، ولقد قال النبي: نحن معاشر الأنبياء لا نورث.
إذاً: قد صار هذا حكماً من أحكام الشريعة التي يؤمن بها، ألا لا يورث نبي, وهكذا وجد سيدنا أبا بكر نفسه بين ولائين، ولاؤه لرسول الله صلى الله عليه وسلم في أحب الناس إليه وهي ابنته، وولاؤه للقانون والشرع الذي جاء به النبي عليه الصلاة والسلام.
لكن خاف سيدنا الصديق, أن يدخل على قلب السيدة فاطمة شكٌ, في أن النبي عليه الصلاة والسلام, لم يقل هذا الكلام، ماذا فعل؟ أرسل إلى عمر، وإلى طلحة، وإلى الزبير، وإلى سعد بن أبي وقاص، وعبد الرحمن بن عوف, وسألهم أمامها: ناشدتكم بالذي تقوم السماء والأرض بأمره, ألم تعلموا أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة؟ فقالوا: نعم، أي أنه أكد لها أن هذا الكلام متواتر، لم أسمعه أنا وحدي، بل هؤلاء جميعاً سمعوه، وهذا شرع ولا ينبغي أن نخالف الشرع.
عندئذٍ أدلت السيدة فاطمة رضي الله عنها بحجةٍ جديدة، قالت: إنك تعلم أن الرسول قد وهبها لي في حياته، فهي إذاً: بحق الهبة لا بحق الإرث، هذه ليست إرثًا، ولكنها هبة، فقال أبو بكر: أجل أعلم، ولكني رأيته يقسمها بين الفقراء, والمساكين, وابن السبيل, بعد أن يعطيكم منها ما يكفيكم، قالت فاطمة: دعها تكن في أيدينا, ونجري فيها على ما كانت تجري عليه، وهي في يد رسول الله, قال أبو بكر: لست أرى ذلك، فأنا ولي المؤمنين من بعد رسولهم، وأنا أحق بذلك منكم، أضعها في الموضع, الذي كان النبي يضعها فيه, ثم رفض هذا الطلب رفضاً كلي.
أيها الإخوة؛ عنده ولاء لسيدنا رسول الله، وعنده ولاء لهذا الشرع الذي جاء به، فكان ولاؤه للشرع هو الولاء الحقيقي، ولم يقبل أن يعطيها.
موقفه مع سيدنا أسامة بن زيد رضي الله عنهما.
موقف آخر له: هو كان يحترم هذا الشرع، وكان يحترم الذين أوكلوا بتنفيذ بعض المهمات.
فيوم خرج يودع سيدنا أسامة الذي سبق الحديث عنه، كان بين جنود هذا الجيش رجل اسمه: عمر بن الخطاب من بين الجنود، القائد أسامة بن زيد، وكان من بين جنود هذا الجيش سيدنا عمر بن الخطاب، وكان أبو بكرٍ حريصاً على أن يبقى عمر بجواره في المدينة، هذا مستشار أول، أمين سره، يده اليمنى، نائبه، ولقد كان يستطيع كخليفة للمسلمين أن يستبقيه بقرارٍ ينفرد بإصداره: يا أبا حفص ابقَ معنا، انتهى الأمر.
لكنه لم يقل ذلك, لو قال هذا الكلام, معنى هذا: تجاوز النظام، ولكنه يعلم أن في هذا التصرف، أي استصدار قرار بإبقاء سيدنا عمر إلى جانبه من عنده، أن في هذا التصرف عدواناً على موظفٍ مسؤول، يجب أن تتوافر له الضمانات التي تمكنه من أداء واجبه، وأولى هذه الضمانات: ألا تنتقص سلطته شيئاً، وهكذا اقترب الخليفة من قائد الجيش أسامة، وقال له في همسٍ ورجاء: إذا رأيت أن تترك لي عمر بن الخطاب، سيدنا أسامة عمره سبعة عشر عاماً، أرأيتم النظام؟ سيدنا الصديق أعتقد عمره بالواحد والستين، لأنه توفي ثلاثة وستين، بالواحد والستين، سيدنا عمر أقل بقليل، وعنهما قال سيدنا رسول الله:
تقدم سيدنا الصديق الخليفة العظيم بعد أن مشى في ركابه, قال له: إذا رأيت أن تترك لي عمر بن الخطاب, فإني أجد في بقائه معي خيراً ونفعاً، وبادر أسامة بالرضا والموافقة إن أبا بكر لم يفعل هذا مجاملةً أو تواضعاً، وإنما فعله واجباً، ولو أن أسامة قال: لا, ما وسع الخليفة أن يخالف أمره، هذا قائد الجيش, له الأمر، هذا موقف من مواقف سيدنا الصديق، إنه يعلمنا: كيف نحترم النظام.
ورعه رضي الله عنه.
موقف آخر: سيدنا الصديق غداة استخلافه، تولى الخلافة الجمعة مثلاً، السبت خرج من داره, حاملاً على كتفيه, لفافةً كبيرةً من الثياب، هو كان بزازا، كان بائع أقمشة، وفي الطريق يلقاه عمر وأبو عبيدة فيسألانه: إلى أين يا خليفة رسول الله؟. فيجيبهما: إلى السوق، أريد أن أبيع. قال عمر: وماذا تصنع في السوق, وقد وليت أمر المسلمين؟. قال أبو بكر: فمن أين أطعم عيالي إذاً؟ هذه لوحدها، أنا خليفة، ولكن نريد أن نأكل، من أين أطعم عيالي إذاً؟ ولم يدخل هذا المنصب على نفسه الكبيرة أي زهوٍ، ولم يحرك لها أي رغبةٍ, في تغيير أسلوب حياته. قال له عمر: انطلق معنا نفرض لك شيئاً من بيت المال, وصحبهما الخليفة إلى المسجد، حيث يؤدي أصحاب رسول الله، وعرض عليهم عمر رأيه, في أن يفرض للخليفة بدل تفرُّغ.
معاش كي لا يشتغل.
الإمام البخاري يحدثنا, ويقول في صحيحه: إنه كان لخليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم غلام، جاءه يوماً يمشي بشيءٍ فأكل منه، ولما فرغ من أكله, قال له الغلام: أتدري ما هذا يا خليفة رسول الله؟ فقال: ما هو؟ قال: إني كنت قد تكهَّنت لرجلٍ في الجاهلية، وما أحسن الكهانة إلا أني خدعته، وقد لقيني اليوم فأعطاني، فهذا الذي أكلت منه، أعطاني مبلغا من المال، فاشترى به لبن، وجاء به سيدنا الصديق فشرب منه، فأدخل أبو بكرٍ يده في فمه, حتى قاء كل شيءٍ في جوفه.-طبعاً هذا موقف شخصي، لا حكم شرعي فيه، أي إذا أكل إنسان أكلة، وبعدما أكلها, تبين له أنها من مال حرام، غير مكلف أن يقيء ذلك- ويضيف صاحب الصفوة إلى ذلك أنه قيل لأبي بكر: يرحمك الله, كل هذا من أجل لقمةٍ واحدة, فأجاب قائلاً: واللهِ لو لم تخرج إلا مع نفسي لأخرجتها، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: كل جسدٍ نبت من سحتٍ, فالنار أولى به، فخشيت أن ينبت شيءٌ من جسدي من هذه اللقمة.
بهذا الورع رضي الله عن أصحاب رسول الله، بهذا الحب رضي الله عن أصحاب رسول الله، بهذا التواضع رضي الله عن أصحاب رسول الله، بهذا الالتزام بالشرع، لابنته فاطمة قال: لا، رضي الله عن أصحاب رسول الله، بهذا الاحترام للمسؤولية, رضي الله عن أصحاب رسول الله.
كان هذا الصديق العظيم, حريصاً على ألا ينال من بيت المال, إلا ما يكفيه وأهله، وما نال من المال وهو خليفة، ولا نال من مناعم الحياة, إلا كان يأكل وأهله من جريش الطعام، إلا وما كانوا يلبسون من خشن الثياب.
حينما جاءه الموت, دعا ابنته عائشة, وقال لها: يا بنيتي, انظري ما زاد في مال أبيك منذ ولي في هذا الأمر, فرديه على المسلمين, السيدة عائشة حملت تركة أبيها فور وفاته، وفور مبايعة عمر، حملتها إلى أمير المؤمنين تنفيذاً لوصيته، فما كاد عمر يرى ويسمع حتى انفجر باكياً، وقال: يرحم الله أبا بكر, لقد أتعب كل الذين جاؤوا بعده.
فما هي التركة التي تركها بعد وفاته؟ بعيرٌ كان يستسقي عليه الماء، ومحلبٌ كان يحلب فيه اللبن, وعباءةٌ كان يستقبل بها الوفود، هذا الذي تركه بعد وفاته, ومع ذلك ردَّهم لبيت مال المسلمين.
قصته مع ربيعة الأسلمي رضي الله عنهما.
ولنصغِ الآن إلى ربيعة الأسلمي صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: كان بيني وبين أبي بكرٍ كلام، فقال لي كلمةً كرهتها، ثم ندم عليها, وقال لي: يا ربيعة, رد علي مثلها حتى تكون قصاصاً.
قلت: لا أفعل.
فقال لي: لتأخذن بحقك مني أو لأشكونك لرسول الله.
قلت: ما أنا بفاعل.
فذهب عني منطلقاً إلى النبي عليه الصلاة والسلام, وانطلقت وراءه، فجاء ناسٌ من أسلم، من أقربائه, فقالوا: يرحم الله أبا بكر, في أي شيءٍ جاء النبي عليه الصلاة والسلام؟ فقلت لهم: اسكتوا، هذا أبو بكر، هذا الذي قال الله عنه:
وانطلقت وراء أبي بكر, حتى أتى النبي عليه الصلاة والسلام, فحدثه بما كان، فرفع النبي الكريم إليَّ رأسه وقال: يا ربيعة, ما لك وللصديق؟.
قلت: يا رسول الله, إنه قال لي كلمةً كرهتها، ثم طلب إلي أن أردها عليه, لتكون قصاصاً, فأبيت.
فقال عليه الصلاة والسلام:
فقلت: غفر الله لك يا أبا بكر, فولى وهو يبكي, ما هذه الحساسية؟.
دخل مع رسول الله في بدر، وأحد، والخندق، وحنين، وهاجر معه، وتحمل الأخطار معه، وقدم كل ماله، فلما أسمع أخاه كلمةً كرهها, اختلَّ توازنه, وقال له: قل لي كلمة مثلها، افعل ذلك حتى تريحني، فلما امتنع، ضاقت به الأرض, بهذا سبقنا هذا الصحابي الجليل، بهذا الورع، واحدٌ كألف وألفٌ كأف.
ويروي لنا أبو الدرداء نبأً شبيهاً بهذا.
فيقول: كنت جالساً عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ أقبل أبو بكرٍ آخذاً بطرف ثوبه, حتى أبدى عن ركبتيه، وقال: يا رسول الله, إنه كان بيني وبين عمر بن الخطاب شيءٌ، فأسرعت إليه نادماً، وسألته أن يغفر لي، فأبى علي, فقال النبي عليه الصلاة والسلام: يغفر الله لك يا أبا بكر, ثم إن عمر ندم، فأتى منزل أبي بكرٍ فلم يجده، ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: يا رسول الله, أنا كنت أظلم, فقال عليه الصلاة والسلام: إن الله بعثني إليكم, فقلتم: كذب, وقال أبو بكرٍ: صدق، ما دعوت أحداً إلى الإسلام إلا كانت له كبوة إلا أخي أبا بكر، فإنه لم يتلعثم، وواساني بنفسه, وماله, وزوجني ابنته، فهل أنتم تاركون لي صاحبي؟.
فهذا مقام سيدنا الصديق.
عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ:
(( خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ, عَاصِبٌ رَأْسَهُ بِخِرْقَةٍ, فَقَعَدَ عَلَى الْمِنْبَرِ, فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْه,ِ ثُمَّ قَالَ: إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ النَّاسِ أَحَدٌ أَمَنَّ عَلَيَّ فِي نَفْسِهِ وَمَالِهِ مِنْ أَبِي بكْرِ بْنِ أَبِي قُحَافَةَ, وَلَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا مِنْ النَّاسِ خَلِيلًا, لَاتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ خَلِيلًا, وَلَكِنْ خُلَّةُ الْإِسْلَامِ أَفْضَلُ, سُدُّوا عَنِّي كُلَّ خَوْخَةٍ فِي هَذَا الْمَسْجِدِ غَيْرَ خَوْخَةِ أَبِي بَكْرٍ ))
إذا زار الإنسان النبي عليه الصلاة والسلام في مدخل باب السلام، ترى لوحة مكتوب عليها: هذه خوخة أبي بكر، أي أن هذا بابٌ لبيت أبي بكر, كان مفتوحاً على المسجد، فلما مرض النبي عليه الصلاة والسلام قال:
(( سُدُّوا عَنِّي كُلَّ خَوْخَةٍ فِي هَذَا الْمَسْجِدِ غَيْرَ خَوْخَةِ أَبِي بَكْرٍ ))
(( ما طلعت شمسٌ على رجلٍ بعد نبيٍ أفضل من أبي بكر ))
(( ما ساءني قط فاعرفوا له ذلك ))
فسيدنا الصديق كان مثلاً أعلى لطالب الحق، كان مثلاً أعلى لمريد الحقيقة، كان مثلا أعلى للمريد، هذا المصطلح الصوفي يقول لك: فلان مريد، هذا الصديق كان مثلاً أعلى للمريد الصادق الذي يبتغي الله ورسوله.
الخاتمة.
أيها الإخوة؛ بذكر الصالحين تتنزل الرحمة، إذا جلست بمجلس فتكلم عن إنسان صالح تشعر بسعادة، تحدث عن إنسان طالح تشعر بانقباض، عوِّد نفسك بكل مجلس, أن تتحدث عن أصحاب رسول الله, تجد الغم قد ذهب، ذهب الهم، شهرت بالبطولة، شعرت بهذه القدوة، شعرت أن هناك إنسان عظيم، قلده يا أخي، سر على نهجه، تقفّى أثره.
انظروا الى هذا الموقف الرائع من أبي بكر، يا ترى نحن مع بعضنا هكذا؟ نقعد في المسجد نغتاب فلان، نتكلم عنه أقذع الكلمات, وبعدها: قوموا نصلي العشاء، أخي أذَّن قم لنصلي، ماذا تصلي, وأنت نهشت عرض أخيك، تحدثت عنه، أكلت من لحمه، والله لا يرضى عن ذلك, كلمة قالها سيدنا الصديق، ما اغتاب، ما نقل فلان حكى عنك كذا، ما هذا؟ مؤمنون يغتابون؟.
بلغني من مدة أنه: في كثير من المجالس في البيوت كلها غيبة، كلها نميمة، فلان حكى عنك، ما هذا الأخ؟ هذه نميمة، لا يدخل الجنة نمام، فلان قال عنك: أنت منافق، فلان قال عنك: ليس فيك خير، ما هذا؟.
إذا أردت أن تكون مؤمناً صادقاً, فاقتد بهذا الإنسان العظيم، هذه القصص لا نتلوها للتسلية، إنهم مثل عليا، فإذا أردنا أن نكون ممن رضي الله عنهم، فلنكن كهؤلاء الأصحاب الكرام, الذين ملؤوا الدنيا بسيرهم العطرة.
الذي أرجوه: أن الإنسان يضبط لسانه، فأي كلام فيه غيبة ونميمة ينتقل إلى الآخرين، يفتت المجتمع المسلم، فلان حكى عني، لا حق له علي، مَن نقل له الكلام؟ قال تعالى:
إذا أخ تكلم عن أخ كلام باطل غير متحقق منه، من دون تثبت, ومن دون تحقق في غيبته، وجاء واحد ثاني, نقل له ما حكى عنه، والله أتألم من أعماقي، أحس أن عملي كله بطَّال، ما هذه الدعوة إلى الله؟ كلها كلام لا معنى لها، إذا ما أصبحت الدعوة سلوك، التزام، والله كلام ليس له معنى.
إذاً: الذي أرجوه منكم، أنا قرأت هذه القصة, لتكون منطلقًا لهذا التوجيه، أخ يحكي عن أخ ليس له حق, قال تعالى:
كان أحد العلماء الأجلاء, يقول إذا أحد حكى أمامه كلمة: اسكت يا بني، يا أبي اسكت, أظلم قلبي، ما كان يجرؤ أحد أن يتكلم على أحد أمامه، علِّم الناس هكذا، هذا الذي أرجوه منكم.
أيها الإخوة؛ كثير بلغني قصص: أن فلان حكى على فلان من دون حاجة، وفلان نقل لفلان: حكى عليك، تجد القلب مملوء، مشحون بغضاء، مشحون ضيق، هكذا المؤمنون؟ هذا المجتمع المؤمن؟ هذا المجتمع الذي يحب الله ورسوله؟ هذا المجتمع الملتزم؟ هذه أثر مجالس العلم؟.
و الحمد لله رب العالمين